"واحات العولمة"، عبارة ملائمة لوصف بعض المدن الخليجية، وتعني أنها مدن عائمة أومعلقة لا تربطها جسور بالهوامش العربيّة، ذلك أنّ الطفرة الحداثية في هذه المدن وُلدت ولادة قيصرية بسبب الثروة النفطية، وليست نابعة من سيطرة مستقلة على الثروات الطبيعية، من السياق أو المحيط وحركيّة الفعل الذاتي الإنتاجي لأبناء المجتمع عبر اندماج في المحيط العربيّ، بقدر ما هي نابعة من اندماج شرائح معيّنة من سكّان هذه "الواحات" في الاقتصاد العالمي، وحصولها على حصص كالسلطة وجزء من الثروة، ومن إصرارها على أن تكون امتداداً للغرب، ولكن وفق منطق الاستثمار والربح، بعيداً عن التوزيع العادل للثروة، وتداول السلطة، والتنمية الاقتصادية الشاملة، بحيث تبدو المؤسسات والناطحات والبنوك وكلّ ما يُشيّد من إنتاج أفراد أكثر مما هو نتاج جماعيّ موظّف ضمن رؤية اقتصادية بعيدة النظر. وهذا المال الذي يبني هنا، يُخرّب هناك، أي هو جزء من لعبة السياسة، ولا يخرج عن منطق المصالح،وأحياناً يُمنح كهبات تُذكّر بهبات السلاطين العرب القدامى.
إن هذا المال الذي يُركّع حتى بعض السياسيين الغربيين، ويحوّلهم إلى مقبّلي أيدي، يصنع ثقافة لا تخدم في النهاية، على المستوى العميق، سوى اللبْرلة في اقتحاماتها التي لا تتوقّف، والفكر التقليدي الذي يُعاد إنتاجه تحت واجهة شفافة من الشكلانية السلطانية التي ترتدي بزةّ غربية فوق العباءة، وإذا ما نَفَدتْ مجلة هنا، أو دار نشر هناك، فإنّ هذا لا يعني أنك حرّ في اختيار توجهاتك الفكرية، بقدر ما يعني أنّه عليك العثور على طريقة للإنتاج الثقافي تحافظ على استمرارية الدعم من خلالها، وبذلك تتحوّل من مبدع أو مفكرّ أو مبتكر ثقافي إلى واجهة ثقافية، أو إلى مخرج ثقافي، يُخرج المجلة بالطريقة التي تحافظ على استمراريتها، ويدير دار النشر بطريقة لا تُغضب الرقابة، وفيّة للمجتمع وموروثاته، ويكتب ويخرج المسلسل وفق المواصفات المطلوبة.
وفي سياق التوظيف الثقافي والإعلامي والسياسي لهذه الأموال يزداد الطلب على الموظفين، وعلى من يمتلكون خبرات إعلامية وترويجية وتسويقية وعلاقات عامة، وعلى مسؤولين ثقافيين وسياسيين وخبراء ووزراء وجنرالات ومعارضين سابقين يتم تحويلهم إلى قنوات معلومات، وآخرين لوضع خطط وبرامج، أو لتوظيفهم ضدّ هذا النظام أو ذاك، فيما مشكلات الواقع العربي الصميميّة مغيّبة، أو منفيّة إلى الربع الخالي للصمت.
وهذه آلية بدأت أولاً في إطار الديكتاتوريات، فكثير من العرب الذين وُظّفوا في السياق الخليجي، وخاصة السياسيين، كانوا في السابق “خبرات” في خدمة الدكتاتور.
استطاعت أموال العائد النفطي أن تتحوّل إلى حاضن للثقافة العربية، حاضن يقبض على الثقافة بذراعين فولاذيين، لا لكي يحرّكها في أفق الإبداع بقدر ما كي يخنقها ويحوّلها إلى بعد وظيفيّ من أبعاد النظام، وهكذا يتم إنتاج وزارات ثقافة البعث في مكاتب فخمة، وفي علاقات سلطانية مدروسة، وفي شكلانية تمويهية.
صارت المجلات والجرائد ودور النشر والمؤسسات الخليجية، هي المنتج للثقافة وللخطاب في العالم العربي، أي المنتج الكمي، وهي قابلة للتوظيف بحكم الحاجة السياسية.
هل يمكن الحديث عن هذا الإنتاج كما لو أنه محصّلة للتجربة المدنية؟ أم أنه طفرة سرعان ما ستنهار حين تتغيّر المعادلة، أي حين يتكشف أن أعمدة الاستقرار قائمة في الفراغ؟ هل هذا المنتج الثقافي مجرد ديكور يموّه الخيمة؟ هل الأبراج العالية هي خيام اسمنتية فحسب؟ أسئلة مشروعة ولا شكّ، ذلك أن هذه الثقافة المُموّلة بعيدة كلّ البعد عن هموم الشارع والمال نفسه الذي ينتجها ينتج ثقافة الجهل والتخلّف في أمكنة أخرى من العالم العربي، ومسارات التمويل معروفة ولا حاجة للحديث عنها.
غير أن اختزال المشهد الخليجيّ بهذه الطريقة مبالغ فيه وظالم، ذلك أن هذه المناطق فيها مواهب عالية المستوى تفرض حضورها على الساحة العربية، فضلاً عن أن قراء العربية ينتظرون بلهفة الكثير من الكتب التي تصدر في دول الخليج العربي، ويتلقفون أعداداً لا تُحصى من المجلات من مختلف الأنواع، غير أن لهفتهم لانتظار مجلات كـ "الآداب" سابقاً، و"شعر" و"مواقف و"الكرمل" و"الناقد" و"الطريق" كانت أكبر، فمجلات كهذه، رغم التمويل البسيط لمعظمها، استطاعت أن تلعب دوراً ثقافياً رائداً وأن تغني حساسية أجيال بأكملها، وصدرت انطلاقاً من رؤية فكرية أو أدبية أو فنية أو سياسية، فهل لعبت مجلة كـ "العربي" أو "دبي الثقافية" مثلاً هذا الدور؟ وهل طبيعة الكتب التي تُنتج في دول الخليج الآن، ترقى فكرياً إلى مستوى الكتب التي كانت تُنتج في بيروت، مثلاً؟ أترك المسألة هنا في صيغة سؤال.
إنّ مجلات قائمة على فكرة اصطياد المشاهير من الكتاب العرب وصناعة البرستيج أكثر مما هي مشغولة بتأسيس ثقافة بديلة أو بطرح رؤية ثقافية أو فنية جديدة، تعكس توجّهاً فنياً أو ثقافياً، لا يمكن أن تُعدّ طليعية. ويمكن قول الأمر نفسه عن كثير من الإصدارات التي يمكن أن تتحدث عن كلّ شيء ما عدا العراقيل التي تقف في وجه النهضة العربية المطلوبة بقوة في هذا العصر الذي يتميّز بصعود قوى إقليمية مجاورة للعرب، وبانهيار الكيانات العربية وتعرّضها الواضح لمشاريع التقسيم، وإذ لم يبق لنا كعرب سوى سلاح الثقافة من أجل بلورة رؤية لمستقبلهم، لا بدّ من أن نكون جذريين في مقارباتنا لهذه القضايا وألا نقف عند حدود الترويج وتكرار الخطاب.
استند النتاج الثقافي الإبداعي في لبنان على الأصوات العابرة للحدود العربية، فولادة مجلة شعر والحركة التي أحدثتها ثم مواقف وقبلهما الآداب وغيرها من المجلات الأخرى وُلدت عبر فاعليّة تقاطع خبرات المبدعين في سوريا ولبنان والعراق والبلدان العربية الأخرى. وكان في كل مجلة مزيج من الأقلام العربية المتنوّعة، ومن بلدان عربية كثيرة، إذا لم يتجل في أسماء المحررين فإنه تجلى في المواد المنشورة.هذه الفورة سرعان ما انتهت وتمخضت الحرب الأهلية في لبنان عن انحسار واضح لدور المجلات الثقافية، ولم تقدر الصفحات الثقافية في الجرائد على سدّ الفراغ.
اصطدمت مجلة "شعر" بجدار اللغة، واصطدمت "الآداب" بجدار التكرار وعدم القدرة على تجديد خطّها، بينما اصطدمت "مواقف" بجدار المنع والرقابة، واصطدمت آخر مجلة لم يصدر منها سوى أربعة أعداد هي "الآخر" بجدار انقطاع التمويل المفاجئ. وانتقلنا من لهفة انتظار المجلات المهمة وتوزيعها على الأكشاك، وحجز عدد في سباق محموم، أو الحرمان من عدد لم تسمح الرقابة بدخوله، إلى غابة متشعبة معقدة، هي غابة الشبكة الاجتماعية بكل تفرعاتها. وانتقلنا من القارئ التقليدي الذي يمسك بين يديه ورقاً يشعر بملمسه، يحاور مسامه كما يحاور عينيه، إلى صفحات الشاشة التي تفرض جلسة غير مريحة، وتمنيات بأن لا تنقطع الكهرباء، أو أن تتقصد الدولة قطع الإنترنت.
صارت منطقة الخليج بيروتاً أخرى، مكاناً لتفاعل وتراكم الخبرات، العربية والأجنبية، فكما كانت بيروت حاضناً للعرب، صارت بلدان الخليج حاضنة لهم، واستطاع المال النفطيّ أن يقلب المعادلة في العالم العربي، مغيّراً في طبيعة التفكير، وفي خطاب الصحافة وتوجهات النشر، واستطاعت الأموال النفطية أن تعيد رسم الخريطة الثقافية والسياسية وطبيعة توجّهها حتى في لبنان، غير أن هذه المسألة معقدة، وبحاجة إلى دراسة مفصّلة لكشف ملابساتها، ذلك أن لبنان بلد مفتوح على شتى أنواع التأثيرات الإقليمية والدولية، ولا شكّ أن المال الموجّه إلى الثقافة والصحافة لعب دوراً واضحاً في المعادلة. غير أن الحكم في النهاية على المُنتج الثقافي. وقد يكون لبنان وغيره، على مستوى المؤسسات الثقافية والإعلامية، امتداداً للمؤسسات الخليجية، ذلك أن الدعم المالي متوفر بكثرة في المشاريع الثقافية اللبنانية.
إن من يدفع ثمن هذا التركز للثروة هم الشباب العرب الذين يحلمون دوماً بالحصول على تمويل حقيقيّ لإطلاق مشاريع مجلات طليعية تعبّر عن أفكارهم وتطلعاتهم وهواجسهم الإبداعية والثقافية، غير أن هذا النمط من النشر لم يعد موجوداً، بل صار من الصعب أن يوجد، وقنوات التمويل كلّها سواء تلك التي تقدمها المنظمات والمراكز الثقافية العالمية والمنظمات غير الربحية وغيرها، هي جزء من ألعاب السياسة والاقتصاد، فبناء سينما مثلاً في جينين بتمويل ألماني، بحجة دعم ثقافة السلام، تكشف عن أنه يهدف للترويج لمنتجات الشركات الألمانية وخبراتها، أكثر مما هو لخدمة سلام غير مطروح في الأساس حتى على أجندة السياسيين الألمانيين، كما بيّنت الكاتبة الألمانية إريت نايدهارد. وأذكر مرة في معرض فرانكفورت للكتاب في ألمانيا أن المؤسسات الداعمة للكتب المترجمة إلى العربية عرضت كتباً للدعم دعائية الطابع بينها كتاب حول تربية القطط في ألمانيا، وكتباً أخرى عن الصناعات الألمانية وغيرها. ولا يشذّ التمويل العربي هنا عن هذه الألعاب، إلا أن معظم شروطه سياسية، مما دفع الشبان العرب إلى اللجوء إلى فضاءات الإنترنت الرحبة كي يعبّروا عن همومهم وتطلعاتهم بعيداً عن القبضة المالية التي تمسك بخناق القنوات الثقافية العربية كلّها من المشرق إلى المغرب.
ولا بدّ من أن نطرح سؤالاً في غاية الأهمية، ألا وهو أنه بعد أن تركّز المال في أمكنة معيّنة، هل تحقق المنشورات الصادرة عن هذا التركّز تطلعات المتعطّشين إلى الفكر النقدي والأدب الإبداعي الحقيقي؟ أم أن المسألة أعيد تصنيعها كي تخلق ثقافة مساحيق، ثقافة تزيّن الوضع العربي السائد وتموّهه وتسدل عليه ستائر الجهل، بدلاً من أن تفككه؟ أم أنّ المجلات ودور النشر ومؤسسات الأبحاث الجديدة، تحاول، على غرار بعض المؤسسات الغربية، خلق جوّ منفصل عن الواقع العربي، جوّ يتحدث عن صناعة الثقافة والكتابة في المختبرات، بينما لا يقترب من البنية العقلية السائدة الكامنة في جوهر كلّ هذا؟
إن الثقافة التي تُنتج الآن، هي ثقافة ترويج أكثر مما هي ثقافة تنوير، ذلك أن المال الموظّف ثقافياً في العالم العربي عاجز عن إنتاج كتب تحليلية ونقدية قائمة على البحث الميدانيّ، كتب تتناول الإشكاليات العميقة للبلدان العربية، وتخترق بنية الوعي المتوارثة، والتي صارت خلفية ذهنية لنا نحن العرب في عصر التحولات الكبرى. وقد استطاعت هذه البنية الذهنية أن تنتشر في فضاء الإعلام الاجتماعي بعد أن وجدت طريقة سهلة للانتشار. وكونها منتصرة على أرض الواقع، وكونه لا يوجد طرف آخر يصارعها في المجال العام الإلكتروني، وذلك بسبب الرقابة الممنهجة التي دمّرت الثقافة العربية، وحصرها في حيّز العبوديّة المالية، أو في مدن معيّنة فقدت دورها، فإنّ انتصارها الإلكتروني يمثل هزيمة كبرى للثقافة البديلة التي لا تقبل بأقل من تغيير البنية الذهنية والاقتصادية والسياسية وتفرعاتها جذرياً، من أجل تأسيس عالم عربي قائم على التعددية والحرية والكرامة.
برزت المجلات والجرائد ومؤسسات النشر في دول الخليج، واستجلبت الخبرات من كلّ من سوريا ولبنان والعراق وأمكنة أخرى ولا بأس في هذا إذا كان الهدف هو تعميق التفاعل الثقافي والأدبيّ العربي، ولكن ما يُلاحظ على دور النشر بعامة، هو تبنيها للإنتاج النشري التجاري، فمعظم الكتب التي تُنشر هي كتب للاستهلاك السريع، ولا تخلق أية تأثيرات ثقافية قد تحدث تنويراً أو تحوّلاً في الوعي، أما بالنسبة لمشاريع ترجمة ما يُكتب بالعربية إلى اللغات الأخرى نلاحظ التجاهل التام للمنتج الإبداعي العربي الحقيقي وإغفال التراث الذي عمره أكثر من ألفي سنة، والتركيز على كتب الهدف منها التسويق أكثر من تقديم ما هو قيّم للقراء.
هكذا تندرج صناعة النشر في ألعاب السوق، وتعمل على تشكيل ذوق استهلاكي يتابع الجديد محلياً وفي العالم ولكن بدون طرح أسئلة حقيقية على هذا المنتج، أي أنّ سلطة النص لا تكمن فيه بقدر ما تكمن في الدعاية وآليات التسويق، مما يفرغ النص من فاعليته الإبداعية التنويرية ويحوّله إلى فاعلية استهلاكية.
لا يعني هذا إغفال الكتب المهمة التي تصدر بين فينة وأخرى، وخاصة في المجال الأدبي، إلا أنّ ما هناك حاجة ماسة إليه لا نراه على قوائم دور النشر، والتي تُنتج المقبول عربيّاً، أي الذي لا يخلّ بالقواعد الصارمة التي تعكس غياب الحريات بكافة أشكالها.
يتحدث كثير من الناشرين العرب عن بيع كتب من تحت الطاولة في كافة المعارض العربية، وعن دوريات الرقباء التي تجوب المعارض، غير أن الشيء اللافت للنظر هو أنّ القراءة التي تجمع بين متعة التسلية ومتعة الاطلاع وتعميق المعرفة وتوسيع آفاق الوعي ورؤية الأمور بطريقة جديدة، يُراد لها أن تقتصر، وفقاً لطبيعة مُنتج دور النشر، على أن تكون للتسلية، أو للتلقين، وهذا يشكك في الأهمية التي تُضفى على مشاريع من هذا النوع.
ليست المسألة إن كان لبنان أو القاهرة أو دمشق أو دبي هم المركز والمتبقون هم الأطراف. إن الثقافة الحقيقية تتجاوز تقسيمات شكلية سطحية كهذه إذا وضعنا اللغة المشتركة والثقافة المشتركة للعرب في عين الاعتبار، فما هو مهمّ في النهاية، هو إنتاج معرفي يلبّي الحاجة إلى التعليم والتنوير ويخدم الأجيال العربية الطالعة التي هي بحاجة إلى تضافر جهود الجميع، من أجل تقديم معرفة نوعية تخدم شرائح العمر كلّها، عبر التركيز على المكتبة المدرسية ومكتبة الحارة والمكتبة المنزلية، وملء هذه المكتبات بالكتب التنويرية التي تحلل واقعنا العربي وتكشف عن مآزقة وأمراضه من أجل خلق وعي حقيقي قادر على تغييره وفق رؤية متكاملة هاجسها تقدّم العرب في عصر سيدفعون وجودهم نفسه ثمناً لعدم اللحاق به.